فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومفعول أرسلنا محذوف أي: رسلًا من قبلك.
وقال الفراء: في شيع الأولين هو من إضافة الشيء إلى صفته كقوله: حق اليقين، وبجانب الغربي أي الشيع الموصوف، أي: في شيع الأمم الأولين، والأولون هم الأقدمون.
وقال الزمخشري: وما يأتيهم حكاية ماضية، لأنّ ما لا تدخل على مضارع، إلا وهو في موضع الحال، ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال انتهى.
وهذا الذي ذكره هو قول الأكثر من أنّ ما تخلص المضارع للحال وتعينه له، وذهب غيره إلى أنّ ما يكثر دخولها على المضارع مرادًا به الحال، وتدخل عليه مرادًا به الاستقبال، وأنشد على ذلك قول أبي ذؤيب:
أودي بني وأودعوني حسرة ** عند الرقاد وعبرة ما تقلع

وقول الأعشى يمدح الرسول عليه السلام:
له نافلات ما يغب نوالها ** وليس عطاء اليوم مانعه غدا

وقال تعالى: {ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إليَّ} والضمير في نسلكه عائد على الذكر قاله الزمخشري، قال: والضمير للذكر أي: مثل ذلك السلك.
ونحوه: نسلك الذكر في قلوب المجرمين على معنى أنه يلقيه في قلوبهم مكذبًا مستهزأ به غير مقبول، كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها فقلت: كذلك أنزلها باللئام يعني: مثل هذا الإنزال أنزلها بهم، مردودة غير مقصية.
ومحل قوله: لا يؤمنون النصب على الحال أي: غير مؤمن به، أو هو بيان لقوله: كذلك نسلكه انتهى.
وما ذهب إليه من أنّ الضمير عائد على الذكر ذكره الغرنوي عن الحسن. قال الحسن: معناه نسلك الذكر إلزامًا للحجة، وقال ابن عطية: الضمير في نسلكه عائد على الاستهزاء والشرك ونحوه، وهو قول: الحسن، وقتادة، وابن جريج، وابن زيد.
ويكون الضمير في به يعود أيضًا على ذلك نفسه، وتكون باء السبب أي: لا يؤمنون بسبب شركهم واستهزائهم، ويكون قوله: لا يؤمنون به في موضع الحال، ويحتمل أن يكون الضمير في نسلكه عائدًا على الذكر المحفوظ المتقدم الذكر وهو القرآن أي: مكذبًا به مردودًا مستهزأ به، يدخله في قلوب المجرمين.
ويكون الضمير في به عائدًا عليه، ويحتمل أن يكون الضمير في نسلكه عائدًا على الاستهزاء والشرك، والضمير في به يعود على القرآن، فيختلف على هذا عود الضميرين انتهى.
وروى ابن جريج عن مجاهد بذلك التكذيب، فعلى هذا تكون الباء في به للسبب.
والذي يظهر عوده على الاستهزاء المفهوم من قوله: يستهزؤون، والباء في به للسبب.
والمجرمون هنا كفار قريش، ومن دعاهم الرسول إلى الإيمان.
ولا يؤمنون إن كان إخبارًا مستأنفًا فهو من العام المراد به الخصوص فيمن ختم عليه، إذ قد آمن عالم ممن كذب الرسول.
وقد خلت سنة الأولين في تكذيبهم رسلهم، أو في إهلاكهم حين كذبوا رسلهم، واستهزأوا بهم، وهو تهديد لمشركي قريش.
والضمير في عليهم عائد على المشركين، وذلك لفرط تكذيبهم وبعدهم عن الإيمان حتى ينكروا ما هو محسوس مشاهد بالأعين مماس بالأجساد بالحركة والانتقال، وهذا بحسب المبالغة التامة في إنكار الحق.
والظاهر أنّ الضمير في فظلوا عائد على من عاد عليه في قوله: عليهم، أي: لو فتح لهم باب من السماء، وجعل لهم معراج يصعدون فيه لقالوا: هو شيء تتخيله لا حقيقة له، وقد سخرنا بذلك.
وجاء لفظ فظلوا مشعرًا بحصول ذلك في النهار ليكونوا مستوضحين لما عاينوا، على أنّ ظل يأتي بمعنى صار أيضًا.
وعن ابن عباس أنّ الضمير في فظلوا يعود على الملائكة لقولهم: {لو ما تأتينا بالملائكة} أي: ولو رأوا الملائكة تصعد وتنصرف في باب مفتوح في السماء لما آمنوا.
وقرأ الأعمش، وأبو حيوة: يعرجون بكسر الراء، وهي لغة هذيل في العروج بمعنى الصعود.
وجاء لفظ إنما مشعرًا بالحصر، كأنه قال: ليس ذلك إلا تسكيرًا للأبصار.
وقرأ الحسن، ومجاهد، وابن كثير: سكرت بتخفيف الكاف مبنيًا للمفعول، وقرأ باقي السبعة: بشدها مبنيًا للمفعول.
وقرأ الزهري: بفتح السين وكسر الكاف مخففة مبنيًا للفاعل، شبهوا رؤية أبصارهم برؤية السكران لقلة تصوره ما يراهـ.
فأما قراءة التشديد فعن ابن عباس وقتادة منعت عن رؤية الحقيقة من السكر، بكسر السين وهو الشد والحبس.
وعن الضحاك شدّت، وعن جوهر جدعت، وعن مجاهد حبست، وعن الكلبي عميت، وعن أبي عمرو غطيت، وعن قتادة أيضًا أخذت، وعن أبي عبيد غشيت.
وأما قراءة التخفيف فقيل: بالتشديد، إلا أنه للتكثير، والتخفيف يؤدي عن معناهـ.
وقيل: معنى التشديد أخذت، ومعنى التخفيف سحرت.
والمشهور أن سكر لا يتعدى.
قال أبو علي: ويجوز أن يكون سمع متعديًا في البصر.
وحكى أبو عبيد عن أبي عبيدة أنه يقال: سكرت أبصارهم إذا غشيها سهاد حتى لا يبصروا.
وقيل: التشديد من سكر الماء، والتخفيف من سكر الشراب، وتقول العرب: سكرت الريح تسكر سكرًا إذا ركدت ولم تنفذ لما انتفت بسبيله، أولًا وسكرًا الرجل من الشراب سكرًا إذا تغيرت حاله وركد ولم ينفذ فيما كان للإنسان أن ينفذ فيه.
ومن هذا المعنى سكران لا يبت أي: لا يقطع أمرًا.
وتقول العرب: سكرت في مجاري الماء إذا طمست، وصرفت الماء فلم ينفذ لوجهه.
فإن كان من سكر الشراب، أو من سكر الريح، فالتضعيف للتعدية.
أو من سكر مجاري الماء فللتكثير، لأنّ مخففة متعد.
وأما سكرت بالتخفيف فإن كان من سكر الماء ففعله متعد، أو من سكر الشراب أو الريح فيكون من باب وجع زيد ووجعه غيره، فتقول: سكر الرجل وسكره غيره، وسكرت الريح وسكرها غيرها، كما جاء سعد زيد وسعده غيره.
ولخص الزمخشري في هذا فقال: وسكرت خيرت أو حبست من السكر، أو السكر.
وقرئ بالتخفيف أي: حبست كما يحبس النهر عن الجري انتهى.
وقرأ ابان بن ثعلب: {سحرت أبصارنا}.
ويجيء قوله: {بل نحن قوم مسحورون}، انتقالًا إلى درجة عظمى من سحر العقل.
وينبغي أن تجعل هذه القراءة تفسير معنى لا تلاوة، لمخالفتها سواد المصحف.
وجاء جواب ولو، قوله: {لقالوا} أي أنهم يشاهدون ما يشاهدون، ولا يشكون في رؤية المحسوس، ولكنهم يقولون ما لا يعتقدون مواطأة على العناد، ودفع الحجة، ومكابرة وإيثارًا للغلبة كما قال تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًّا}. اهـ.

.قال أبو السعود:

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر} ردٌّ لإنكارهم التنزيلَ واستهزائِهم برسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وتسليةٌ له، أي نحن بعِظَم شأنِنا وعلوِّ جنابنا نزلنا ذلك الذكرَ الذي أنكروه وأنكروا نزولَه عليك ونسبوك بذلك إلى الجنون وعَمَّوا مُنزِّله، حيث بنوَا الفعلَ للمفعول إيماءً إلى أنه أمرٌ لا مصدرَ له وفعلٌ لا فاعلَ له {وَإِنَّا لَهُ لحافظون} من كل ما لا يليق به، فيدخل فيه تكذيبُهم له واستهزاؤُهم به دخولًا أوليًا فيكون وعيدًا للمستهزئين، وأما الحفظُ عن مجرد التحريفِ والزيادة والنقصِ وأمثالِها فليس بمقتضى المقام، فالوجهُ الحملُ على الحفظ من جميع ما يقدح فيه من الطعن فيه والمجادلةِ في حقّيته، ويجوزُ أن يراد حفظُه بالإعجاز دليلًا على التنزيل من عنده تعالى إذ لو كان من عند غير الله لتطرّق عليه الزيادةُ والنقصُ والاختلاف، وفي سبك الجملتين من الدلالة على كمال الكبرياءِ والجلالة وعلى فخامة شأنِ التنزيل ما لا يخفى، وفي إيراد الثانيةِ بالجملة الاسمية دلالةٌ على دوام الحفظِ والله سبحانه أعلم، وقيل: الضمير المجرورُ للرسول صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} وتأخيرُ هذا الكلام وإن كان جوابًا عن أول كلامِهم الباطلِ، وردًا له لما ذكر آنفًا ولارتباطه بما يعقُبه من قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَا} أي رسلًا، وإنما لم يُذكر لدلالة ما بعده عليه {مِن قَبْلِكَ} متعلقٌ بأرسلنا أو بمحذوف هو نعتٌ للمفعول المحذوفِ أي رسلًا كائنةً من قبلك {فِى شِيَعِ الأولين} أي فِرَقِهم وأحزابهم جمع شيعة، وهي الفِرقةُ المتّفقة على طريقة ومذهب، من شاعه إذا تبِعه، وإضافتُه إلى الأولين من إضافة الموصوفِ إلى صفته عند الفرّاء، ومن حذف الموصوف عند البصريين أي شيعِ الأممِ الأولين، ومعنى إرسالِهم فيهم جعلُ كل منهم رسولًا فيما بين طائفةٍ منهم ليتابعوه في كل ما يأتي ويذر من أمور الدين.
{وَمَا يَأْتِيهِم مّن رَّسُولٍ} المرادُ نفيُ إتيانِ كل رسولٍ لشيعته الخاصة به لا نفيُ إتيان كل رسول لكل واحدة من تلك الشيعِ جميعًا، أو على سبيل البدلِ، وصيغةُ الاستقبال لاستحضار الصورةِ على طريقة حكايةِ الحالِ الماضية، فإن {ما} لا تدخل في الأغلب على مضارع إلا وهو في معنى الحال، ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال، أي ما أتى شيعةً من تلك الشيعِ رسولٌ خاصٌّ بها {إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤون} كما يفعله هؤلاء الكفرةُ، والجملة في محل النصب على أنها حال مقدّرة من ضمير المفعول في يأتيهم إذا كان المرادُ بالإتيان حدوثَه، أو في محل الرفع على أنها صفةُ رسول فإنه محلَّه الرفعُ على الفاعلية، أي إلا رسولٌ كانوا به يستهزؤون، وأما الجرُّ على أنها صفةٌ باعتبار لفظِه فيُفضي إلى زيادة {من} الاستغراقيةِ في الإثبات ويجوز أن يكون منصوبًا على الوصفية بأن يقدَّر الموصوفُ منصوبًا على الاستثناء وإن كان المختارُ الرفعَ على البدلية.
وهذا كما ترى تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن هذه عادةُ الجهال مع الأنبياء عليهم السلام، وحيث كان الرسولُ مصحوبًا بكتاب من عند الله تعالى تضمّن ذكرُ استهزائِهم بالرسول استهزاءَهم بالكتاب ولذلك قيل: {كذلك} إشارةٌ إلى ما دل عليه الكلام السابقُ من إلقاء الوحي مقرونًا بالاستهزاء، أي مثلَ ذلك السَّلْكِ الذي سلكناه في قلوب أولئك المستهزئين برسلهم وبما جاءوا به من الكتب {نَسْلُكُهُ} أي الذكرَ {فِى قُلُوبِ المجرمين} أي أهل مكةَ أو جنسُ المجرمين، فيدخلون فيه دخولًا أوليًا، ومحلُّه النصبُ على أنه نعتٌ لمصدر محذوف أو حالٌ منه، أي نسلكه سَلْكًا مثلَ السلك أو نسلك السَّلكَ حال كونِه مثلَه أي مقرونًا بالاستهزاء، غيرَ مقبول لما تقتضيه الحكمةُ فإنهم من أهل الخِذلان ليس لهم استحقاقٌ لقبول الحقِّ، وصيغةُ المضارع لكون المشبَّه به مقدمًا في الوجود وهو السِّلك الواقعُ في الأمم السالفة، أو للدِلالة على استحضار الصورةِ، والسَّلْكُ إدخالُ الشيء في آخرَ، يقال: سَلكتُ الخيطَ في الإبرة والرمحَ في المطعون.
{لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي بالذكر، حالٌ من ضمير نسلكه أي غيرَ مؤمَنٍ به، أو بيانٌ للجملة السابقة فلا محل لها، وقد جُعل الضميرُ للاستهزاء فيتعين البيانيةُ إلا أن يُجعل الضميرُ المجرورُ أيضًا له، على أن الباء للملابسة أي نسلك الاستهزاءَ في قلوبهم حالَ كونِهم غيرَ مؤمنين بملابسته، والحالُ إما مقدّرةٌ أو مقارنة للإيذان بأن كفرَهم مقارِنٌ للإلقاء كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأولين} أي قد مضت طريقتهم التي سنها الله تعالى في إهلاكهم حين فعلوا ما فعلوا من التكذيب والاستهزاءِ، وهو استئنافٌ جيء به تكملةً للتسلية وتصريحًا بالوعيد والتهديد.
{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم} أي على هؤلاء المقترِحين المعاندين {بَابًا مِنَ السماء} أي بابًا ما، لا بابًا من أبوابها المعهودة كما قيل، ويسرنا لهم الرُّقيَّ والصعودَ إليه {فَظَلُّواْ فِيهِ} في ذلك الباب {يَعْرُجُونَ} بآلة أو بغيرها ويرون ما فيها من العجائب عِيانًا كما يفيده الظلول، أو فظل الملائكةُ الذين اقترحوا إتيانَهم يعرُجون في ذلك الباب وهم يرَونه عيانًا مستوضحين طولَ نهارهم.
{لَقَالُواْ} لفرط عنادِهم وغلوِّهم في المكابرة وتفاديهم عن قَبول الحق {إِنَّمَا سُكّرَتْ أبصارنا} أي سُدّت من الإحساس من السُكر كما يدل عليه القراءةُ بالتخفيف، أو حُيِّرت كما يعضُده قراءة من قرأ {سكرت} أي حارت.
{بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} قد سحَرنا محمد صلى الله عليه وسلم كما قالوه عند ظهورِ سائرِ الآياتِ الباهرة، وفي كلمتي الحصر والإضراب دلالةٌ على أنهم يبتون القولَ بذلك، وأن ما يرَونه لا حقيقةَ له وإنما هو أمر خُيِّل إليهم بالسحر، وفي اسميةِ الجملة الثانيةِ دَلالةٌ على دوام مضمونِها، وإيرادُها بعد تسكير الأبصارِ لبيان إنكارِهم لغير ما يرونه بعيونهم، فإن عروجَ كل منهم إلى السماء وإن كان مرئيًا لغيره فهو معلوم بطريق الوجدانِ مع قطع النظرِ عن الأبصار، فهم يدعون أن ذلك نوعٌ آخرُ من السحر غيرُ تسكير الأبصار. اهـ.

.قال الألوسي:

ثم إنه تعالى رد إنكارهم التنزيل واستهزاءهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وسلاه عليه الصلاة والسلام بقوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر} أي نحن بعظم شأننا وعلو جانبنا نزلنا الذي أنكروه وأنكروا نزوله عليك وقالوا فيك لادعائه ما قالوا وعملوا منزله حيث بنو الفعل للمفعول إيماءً إلى أنه أمر لا مصدر له وفعل لا فاعل له {وَإِنَّا لَهُ لحافظون} أي من أكل ما يقدح فيه كالتحريف والزيادة والنقصان وغير ذلك حتى أن الشيخ المهيب لو غير نقطة يرد عليه الصبيان ويقول له من كان: الصواب كذا ويدخل في ذلك استهزاء أولئك المستهزئين وتكذيبهم إياه دخولًا أوليًا، ومعنى حفظه من ذلك عدم تأثيره فيه وذبه عنه، وقال الحسن: حفظه بإبقاء شريعته إلى يوم القيامة، وجوز غير واحد أن يراد حفظه بالإعجاز في كل وقت كما يدل عليه الجملة الإسمية من كل زيادة ونقصان وتحريف وتبديل، ولم يحفظ سبحانه كتابًا من الكتب كذلك بل استحفظها جل وعلا الربانيين والأحبار فوقع فيها ما وقع وتولى حفظ القرآن بنفسه سبحانه فلم يزل محفوظًا أولًا وآخرًا، وإلى هذا أشار في الكشاف ثم سأل بما حاصله أن الكلام لما كان مسوقًا لردهم وقد تم الجواب بالأول فما فائدة التذييل بالثاني؟ وإنما يحسن إذا كان الكلام مسوقًا لإثبات محفوظية الذكر أولًا وآخرًا، وأجاب بأنه جيءَ به لغرض صحيح وأدمج فيه المعنى المذكور أما ما هو أن يكون دليلًا على أنه منزل من عند الله تعالى آية، فالأول وإن كان ردًا كان كمجرد دعوى فقيل ولولا أن الذكر من عندنا لما بقي محفوظًا عن الزيادة والنقصان كما سواه من الكلام، وذلك لأنه نظمه لما كان معجزًا لم يمكن زيادة عليه ولا نقص للإخلال بالإعجاز كذا في الكشف:، وفيه إشارة إلى وجه العطف وهو ظاهر.
وأنت تعلم أن الإعجاز لا يكون سببًا لحفظه عن إسقاط بعض السور لأن ذلك لا يخل بالإعجاز كما لا يخفى، فالمختار أن حفظ القرآن وإبقاءه كما نزل حتى يأتي أمر الله تعالى بالإعجاز وغيره مما شاء الله عز وجل، ومن ذلك توفيق الصحابة رضي الله تعالى عنهم لجمعه حسبما علمته أول الكتاب.
واحتج القاضي بالآية على فساد قول بعض من الإمامية لا يعبأ بهم إن القرآن قد دخله الزيادة والنقصان، وضعفه الإمام بأنه يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه لأن للقائلين بذلك أن يقولوا: إن هذه الآية من جملة الزوائد ودعوى الإعجاز في هذا المقدار لابد لها من دليل.
واحتج بها القائلون بحدوث الكلام اللفظي وهي ظاهرة فيه ومن العجيب ما نقله عن أصحابه حيث قال: قال أصحابنا في هذه الآية دلالة على كون البسملة آية من كل سورة لأن الله تعالى قد وعد حفظ القرآن والحفظ لا معنى له إلا أن يبقى مصونًا من الزيادة والنقصان فلو لم تكن البسملة آية من القرآن لما كان مصونًا عن التغيير ولما كان محفوظًا عن الزيادة، ولو جاز أن يظن بالصحابة أنهم زادوا لجاز أن يظن بهم أنهم نقصوا وذلك يوجب خروج القرآن عن كونه حجة اهـ، ولعمري أن تسمية مثل هذا بالخبال أولى من تسميته بالاستدلال، ولا يخفى ما في سبك الجملتين من الدلالة على كمال الكبرياء والجلالة وعلى فخامة شأن التنزيل، وقد اشتملتا على عدة من وجوه التأكيد {وَنَحْنُ} ليس فصلًا لأنه لم يقع بين اسمين وإنما هو إما مبتدأ أو توكيد لاسم إن، ويعلم مما قررنا أن ضمير {لَهُ} للذكر وإليه ذهب مجاهد وقتادة.
والأكثرون وهو الظاهر، وجوز الفراء وذهب إليه النزر أن يكون راجعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي وأنا للنبي الذي أنزل عليه الذكر لحافظون من مكر المستهزئين كقوله تعالى: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67]، والمعول عليه الأول، وأخر هذا الجواب مع أنه رد لأول كلامهم الباطل لما أشرنا إليه فيما مر ولارتباطه بما يعقبه من قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَا} أي رسلًا كما روي عن ابن عباس وإنما لم يذكر لظهور الدلالة عليه {مِن قَبْلِكَ} متعلق بأرسلنا أو بمحذوف وقع نعتًا لمفعوله المحذوف أي رسلًا كائنة من قبلك {فِى شِيَعِ الاولين} أي فرقهم كما قال الحسن، والكلبي، وإليه ذهب الزجاج، وهو وكذا أشياع جمع شيعة وهي والفرقة الجماعة المتفقة على طريقة ومذهب مأخوذ من شاع المتعدي بمعنى تبع لأن بعضهم يشايع بعضًا ويتابعه، وتطلق الشيعة على الأعوان والأنصار، وأصل ذلك على ما قيل من الشياع بالكسر والفتح صغار الحطب يوقد به الكبار، والمناسبة في ذلك نظرًا للإطلاق الثاني ظاهرة وللإطلاق الأول أن التابع من حيث أنه تابع أصغر ممن يتبعه، وإضافته إلى الأولين من إضافة الموصوف إلى صفته عند الفراء ومن حذف الموصوف عند البصريين أي شيع الأمم الأولين، والجار والمجرور متعلق بأرسلنا.